الأب ليس مجرد وجود عضوي أو اقتصادي أو اجتماعي, إنه كل ذلك, والأهم, هو دوره النفسي والروحي في تكوين الأبناء
للحديث عن الآثار النفسية والاجتماعية التي يمكن أن يخلّفها غياب الأب عن أسرته, لابد من إبراز الدور الذي يلعبه وجود الأب داخل الأسرة نفسها. ففي مختلف المجتمعات, مهما تباينت درجة تقدمها, يحتل الأب مكانة خاصة إذ إنه يلعب دورًا رئيسيًا في تماسك الأسرة واستمرارها. وليس من باب الصدفة أن يطلق على الأب في مجتمعنا عبارة (رب الأسرة), أو أن يشبه بـ(عمود الخيمة), الذي لا يمكن للخيمة أن تأخذ شكلها أو أن تستقيم دونه. ويذهب (جيرار مندل) إلى أبعد من ذلك, ويعتبر (ظاهرة السلطة) التي عرفتها جميع المجتمعات منذ بدء الخليقة منبثقة مما سمّاه (التبعية البيولوجية والنفسية والعاطفية) للطفل إزاء الكبار, ولاسيما إزاء الأب. وفي اعتقادنا أن هذه التبعية - إذا ظلت في الحدود المعقولة - تعتبر ضرورية لكل من الأطفال والآباء على حد سواء.
ولعل الوظيفة الرئيسية للأب, بالإضافة إلى توفيره للحاجات المادية للأسرة, أنه يتيح للأبناء الاقتداء به, الأمر الذي يعتبر حيويا بالنسبة لتكوين شخصيتهم ولتوازنهم النفسي, لاسيما في المرحلة الأولى من طفولتهم. فالطفل يكوّن صورته عن ذاته من خلال تعامل أسرته معه, لاسيما تعامل الأب الذي يشكل بالنسبة إلى الطفل نموذجًا يحاول دائمًا التماهي به والاقتداء بما يصدر عنه من أفعال. وتقليد الطفل لوالده, في حركاته وأقواله وأفعاله, ظاهرة تعرفها مختلف الأسر, الأمر الذي يعكس حاجة الطفل إلى الأب كنموذج لسلوك يحاول أن يتمثله ويتعود على القيام به. ومن هذه الناحية, فإن ما يلاحظه الطفل من سلوك والديه, لاسيما سلوك الأب, يلعب دورًا مهمًا في تكوين شخصيته وفي توازنه النفسي, أكثر من الدور الذي يمكن أن تلعبه النصائح والإرشادات التي يسمعها الطفل من والديه, أو من معلميه أو من أي مصدر آخر. ولا يمكن لأي شخص آخر, سواء كان الأم أو الأخ الأكبر أو أحد الأقارب, أن يقوم بالوظيفة نفسها التي يقوم بها الأب, فحتى الأم, مهما بلغت من قوة الشخصية ومن القوة الاقتصادية, لا يمكنها أن تكون أمًا وأبًا في آن معًا.
بالإضافة إلى ذلك, يعتبر الأب بالنسبة للطفل هو (المشرّع) إن صح التعبير, فهو الذي يضع الحدود بين ما يجب أن يقوم به الطفل, وما يجب ألا يقوم به. ومن خلال تدخل الأب في سلوك الطفل يدرك الطفل معنى القانون والواجب, وبالتالي يعدُّ للتكيف مع الحياة داخل المجتمع, على اعتبار أن ذلك يشترط التزام الفرد بسلسلة من القواعد والأعراف التي دونها يتحول سلوك الفرد إلى انحراف يدينه المجتمع ويعاقب عليه.
إن الأب, يعتبر بالنسبة للطفل مصدرا للأمن والحماية. ومما لاشك فيه أن غيابه المادي أو المعنوي يحدث اضطرابا في حياة الطفل. ويتجلى ذلك في مشاعر الخوف والقلق التي تنتاب الطفل بين الحين والآخر, لاسيما أثناء النوم, أو على شكل أعراض (نفسية - جسدية) (قضم الأظفار, تبول لاإرادي, عدم التركيز, كثرة النسيان, الميل للعزلة...إلخ), أو على شكل تغير مفاجئ في السلوك لم يكن معروفًا قبل غياب الأب. وكثيرًا ما تكون هذه الأعراض النفسية والسلوكية بمنزلة خطاب لاشعوري موجه للأب إذا كان لايزال على قيد الحياة, أو موجه للآخرين للاهتمام بما يعانيه الطفل نتيجة غياب الأب.
ويتحدث العالم الأمريكي (بتلهايم), استنادًا إلى حالات قام بعلاجها, عن اضطرابات نفسية تظهر على الأطفال الذين يعانون من غياب الأب في حياتهم. وقد يستمر تأثير هذا الغياب للأب إلى ما بعد الطفولة, وربما يستمر مدى الحياة. فالابن, عندما يكبر, قد يصعب عليه أن يقوم بدور الأب أحسن قيام, إذا حرم في طفولته من الأب. لذا يقول المحلل النفسي (برنار تيس): (لكي تكون أبًا لابد أن تكون ابنا في السابق. وكذلك البنت, فإنها قد تنتظر من زوجها أن يقوم بدور الأب الذي حرمت منه. وأحيانا تعبر عن ذلك بميلها إلى الزواج من رجل متقدم في السن بديلا عن الأب الذي حرمت من عطفه وحنانه في طفولتها.
أمهات...ولا آباء
تتكرر في مجتمعاتنا حال الأطفال الذين اضطرتهم الظروف إلى أن يعيشوا مع أمهاتهم بعيدين عن آبائهم. وفي حال الطلاق أو الهجر غالبًا ما تحاول الأم إلقاء اللوم على الأب على مرأى ومسمع من الطفل, بل قد تحاول تشويه صورة الأب في نظر الطفل بأن تصفه بصفات سلبية, وأحيانًا تكيل له الشتائم وتحمّله مسئولية ما تعانيه, خاصة أن الزوجة المطلقة تميل إلى الشكوى تنفيسا عن حال الإحباط التي تعيشها. وتنسى الزوجة في هذه الحال أن مَن تشوّه صورته في نظر الطفل كان زوجها, وأنها قبلت به واختارته لما كانت تعتبرها صفات إيجابية يتميز بها عن غيره. كما تنسى أن الصورة المشوّهة التي تقدمها عن الأب تتعارض مع الصورة التي كانت تقدمها عن الأب قبل الطلاق.
وتذهب بعض الأمهات إلى أبعد من تشويه صورة الأب المطلّق, وتحاول تحريض الابن ضد والده مستخدمة وسائل لاأخلاقية رغبة منها في الانتقام من الأب. إن سلوكًا من هذا النوع من جانب الأم يسيء بالدرجة الأولى إلى الابن الذي سيكون أبا في المستقبل, وكذلك إلى البنت التي ستكون أمًا في المستقبل وترتبط بعلاقة زواج مع رجل. والأم غير الواعية, التي تعيش هذه الوضعية, ترتكب خطأ فادحًا في حق أبنائها عندما تحاول تشويه صورة والدهم لديهم, كيفما كان سلوك الأب. فصورة الأب يجب أن تظل في مخيلة الابن مقرونة بكل ما هو إيجابي. بل أكثر من ذلك لا يقبل من الابن أن يحاول الإساءة إلى والده لإرضاء الأم, وأحيانًا كمحاولة يلجأ إليها الابن طمعًا في أن تستجيب الأم لجميع مطالبه. وعلى الأم المطلقة, ليس فقط ألا تشوّه صورة زوجها السابق في نظر أبنائه, وإنما أن تشجع هؤلاء الأبناء على أن يظلوا على صلة بوالدهم. وتخطئ الأم في هذه الحال عندما تعتقد أن بإمكانها أن تلعب دور الأب والأم معًا, وتتوهّم أن إغداقها على طفلها واستجابتها لجميع ما يطلبه سيكون تعويضًا له عن الأب, فالطفل ليس جهازا هضميا, بل إن حاجته إلى الأب, بما يرمز إليه الأب من مشاعر الأمن والعطف والحماية..., تفوق حاجته إلى الطعام واللباس. لذا يوصي الدكتور (سبوك) الأم المطلقة أو التي هجرها زوجها بألا تحاول أن تلعب دور الأب والأم في الوقت نفسه, لأنها لن تستطيع ذلك مهما فعلت. ويؤكد أن على الأم أن (تُبقي ظل الأب قويًا في البيت وذلك لمصلحة الأبناء أنفسهم).